شبح البديل الأسوأ
يمنات
صلاح السقلدي
حيث تغيب مؤسسات الدولة – أية دولة – الأمنية والعسكرية والقضائية وغيرها من المؤسسات، لا يمكن إلا أن يكون البديل عنها حكم العصابات وسطوة جماعات التطرف وسيادة نهج البلطجية وازدهار سوق تجار الحروب المقابر.
في نهاية عقد التسعينات من القرن الماضي، سقط النظام الحاكم في جمهورية الصومال برئاسة الرئيس الراحل سيادي بري، في قبضة الجماعات المتطرفة وحكم العشائر والقبائل، بعد أن عجزت القوى الوطنية التي ناهضت وأسقطت ذلك النظام القمعي المستبد، ليس فقط عن أن تأتي بتجربة حكم أفضل مما كان، بل أتت بنموذج أسوأ بألف مرة من النظام المنهار، ودخلت البلاد على إثر ذلك في أتون الإقتتال والفوضى والتطرف الذي طال البر والبحر.
هذه القوى التي خلفت نظام سيادي بري لم تكتف بإسقاط السلطة الحاكمة، بل أسقطت الدولة بمؤسساتها الأمنية والعسكرية والمدنية، لتكون الصومال بذلك أول دولة عربية تسقط في وحل الضياع ومستنقع التمزق.
تلتها عدة دول عربية لن تكون ليبيا واليمن آخرها، سقطت أو توشك بضغط زر كونترول يدار من خلف المحيطات، وبتنسيق من أنظمة حكم تعتقد أن بوسعها إسقاط أنظمة حكم مناوئة لها، مثلما فعلت في العراق وليبيا وسورية وستنجو من ذات المصير.
لا شك أن كل أنظمة الحكم العربية – تقريباً – هي أنظمة قمعية فاسدة من المحيط حتى الخليج. وبالمقابل، أثبتت النخب العربية أنها ليست بأفضل حالاً من تلك الأنظمة، بل وأسوأ منها، إن استثنينا الجمهورية التونسية وسلطنة عمان.
كما أثبتت تلك النخب أنها أدوات طيعة بيد قوى دولية وأنظمة عربية منغلقة، أرادت لها – أي لتلك النخب – أن تكون وسيلة ليس فقط لإسقاط هذه الأنظمة، بل لإسقاط وتدمير الدول ذاتها بمؤسساتها وأساساتها وشعوبها وطوائفها وتاريخها وإرثها، وما تتعرض له دولتا العراق وسورية من مؤامرات تستهدف وحدتهما الوطنية وتفكيك عروتَي نسيجيهما الوطنيَين وتراثيهما العريقين إلا نموذج لذلك.
يقال ان إحقاق الحق أسهل من إبطال الباطل. فهدم نظام الحكم – أي نظام حكم – وإبطال باطله وإنهاء استبداده أمر غاية في السهولة واليسر، مقارنة بصعوبة إحقاق الحق واستعادة الحقوق وإقامة دولة المساواة والعدالة وسيادة القانون وتفعيل المؤسسات والمحافظة عليها وإنشاء الجيوش ذات الولاءات الوطنية. ولنا في ذلك نماذج وأمثلة عدة من العراق حتى ليبيا واليمن مروراً بمصر وسورية والصومال.
فالبديل لم يكن نسخة من الإستبداد القديم فقط، بل أسوأ منه بكثير وخصوصاً بوجهه الطائفي المتوحش. فإن كانت تلك الأنظمة تقمع الكل رغبة في البقاء بالحكم، فهي لم تفعل ذلك إلا لحسابات سياسية صرفة سرعان ما تذوب وتنتهي بنهاية هذه الأنظمة، بعكس ما تقوم به الجماعات المتطرفة والمليشيات المسلحة المنفلتة من عقالها من قمع وسطوة باسم الدين، تنشر معها كل صنوف أفكار التكفير الطائفي والمذهبي والعرقي القومي، وأوضح دليل ما تعرضت له الأقليات المسحية والإثنية في العراق وسورية.
في اليمن، ناضل جميع المظلومين تقريباً ضد نظام علي عبدالله صالح الفاسد القمعي شمالاً منذ سنوات، وفي الجنوب منذ حرب عام 1994م، باعتباره نظاماً يمثل سلطة ما بعد ذلك التاريخي النهبوي المستبد.
و منذ مارس آذار 2015م، أي منذ انطلاق ما تعرف بـ”عاصفة الحزم” العسكرية السعودية، وبعد أن تم طرد قوات صالح وحركة الحوثيين من الجنوب، وبعد أن بسطت بعض الفصائل المناوئة لصالح والحوثي في الشمال سيطرتها على بعض المناطق، وبالذات في تعز، يبدو أن البديل عن ذلك النظام في هذه المناطق ليس أفضل حالاً، بل في كثير من المناطق وفي كثير من الوقائع أضحى كثير من الناس، وبالذات العوام منهم، يتحسرون على نظام ما قبل ذلك التاريخ، ليس أسفاً وحنيناً إلى جنة عيشه المفقودة؛ فهو نظام أقل ما يمكن وصفه به أنه نظام فاسد قمعي، لكن قبح وسوداوية القوى التي تسيطر على تلك المناطق اليوم، ومن خلال همجية نهجها ومسلكها مع الجميع، هي التي تظهر لذلك النظام وجهاً مشرقاً وصورة ناصعة.
في مدينة تعز، وقبل أن تستولي الفصائل المقاومة المسلحة بكل أطيافها الدينية والحربية على كرسي الحكم، طفقت تتناحر في ما بينها، وتحيل حياة الناس إلى جحيم في المعاملات، وإلى غابة من سوء التصرفات والفساد والنهب والاحتيال على المعونات والمعاشات، ناهيك عن تجارتها بالأسلحة والمعدات والوقود وغيرها، هذا فضلاً عن تصرفات بطش وانتهاكات وفظائع كثيرة ترتكبها بعض تلك الفصائل، وبالذات الدينية المتطرفة، وتفاوتت تلك الإنتهاكات بين الشنق والسحل والتنكيل والتكفير.
و في عدن ومحافظات الجنوب الأخرى، لا تبدو الصورة أفضل حالاً من تعز وبالذات بالشق الأمني. ففي الوقت الذي تبذل فيه السلطات المحلية والأمنية في المحافظة (عدن) جهوداً طيبة لتثبيت الأمن، تخرج بين الحين والآخر وفي أوقات مريبة جموع الميليشات المسلحة النفعية والمتطرفة، لتثير حالات من الفوضى لتقويض هذه الجهود لمصلحة قوى سياسية تتصادم وأهداف الجنوب التحررية، مستغلة الأخطاء والتجاوزات التي تُرتكب بين الحين والآخر من قبل السلطات الأمنية والسلطة المحلية.
و بالعودة إلى موضوع غياب المؤسسات الرسمية لأية دولة، وسطوة الميليشات والجماعات المسلحة والمتطرفة التي تشغل ذلك الفراغ السياسي والأمن والمؤسسي، ففي الجنوب، وللأسف الشديد، ليست المشكلة بوجود هذه الجماعات ونفوذها، بل بمن يقف خلفها من القوى والدول.
فثمة جهود خبيثة تبذلها دول إقليمية مجاورة، بالتنسيق مع قوى يمنية وبالذات السلطة التابعة لحزب “الإصلاح” ومن يحيطون بالرئيس عبد ربه منصور هادي من النفعيين في سلطة ما تسمى بـ”الشرعية”، تتمحور حول تأسيس قوى ووحدات أمنية وعسكرية ذات انتماءات جهوية ومناطقية، تتقاسم فيها المحافظات المؤسستين الأمنية والعسكرية (مثل مسمى قوات “العصبة الحضرمية”، و”الحزام الأمني” ذي الأغلبية اليافعية، و”أمن عدن” ضالعي الولاء، وقوات “الأمن الخاص” أي الأمن المركزي سابقاً المحسوب لمحافظة أبين).
هذا التوجه الذي تتبعه تلك الدول وسلطة هادي وحزب “الإصلاح” في الجنوب، يستهدف توجيه الوحدات الأمنية والعسكرية التي تتشكل حالياً الوجهة السياسية التي تريدها القوى الإقليمية واليمنية، متخذة من الخلافات الجنوبية الجنوبية الماضية نافذة لها، علاوة على استخدامها للمال وسيلة إذلال واستقطاب في مجتمع أضحى فيه الفقر والفاقة هما العنوانان الرئيسان.
قبل أيام في عدن، ولسبب بسيط وشخصي، دارت اشتباكات مسلحة بين قوات الأمن وجماعات مسلحة لم تتوقف إلا بشق الأنفس. وبصرف النظر عن ملابسات وسبب تلك الإشتباكات، إلا أن الأمر أفصح عن مدى رخاوة الأرض التي يقف عليها الجنوب، وبالذات في المجال الأمني والعسكري. وإن لم يستشعر الجميع خطورة القادم، فالهوة السحيقة هي المستقر الأخير.
للاشتراك في قناة يمنات على التليجرام انقر هنا